ذات صلة

في جمعة الكرامة : رفض هادي التنازل.. وبقي احمد علي محايدا، وظن علي محسن وحميد الاحمر المعركة “تحريض”

عن جمعة الكرامة : رفض هادي التنازل.. وبقي احمد علي محايدا، وظن علي محسن وحميد الاحمر المعركة “تحريض”

 

كتب/ نبيل الصوفي:

7 سنوات مضت على أول قطرات الدَّم التي لا تزال تسيل حتى اليوم، في طول البلاد وعرضها، والبداية كانت من “جمعة الكرامة” في العاصمة صنعاء، اليوم الذي انتهى نهاره بأكبر كميّة من إعلان الانشقاقات عن السلطة والهرب إلى قارب “حامي الثورة”، كما أصبحت تسميته “اللواء علي محسن الأحمر”، المنشق الأول عن “القوات المسلحة والأمن” وعن “ولي الأمر”، بحسب الوصف الذي يطلقه اليوم محسن والإصلاح على عبدربه منصور هادي.

سبق وكتبتُ عن هذا اليوم، لكنَّ ذكراه اليوم تأتي وقد ألحقنا الحوثي باليمنيين الذين سيطر على فضائهم داخل عاصمة بلادهم بقوة السلاح، مفرغاً البلاد كلها له ولشعاراته وعنصريته وطائفيته، تحكم بالحديد والنَّار، ومن لا يقبل بها لا مكان له ولا حُرمة لدمه ولا لماله ولا لعرضه.

لست متفقاً مع من يريد القول إن علي محسن والإخوان وحميد الأحمر، رتّبوا لإراقة الدم.. هُم رتبوا للثورة، ولإسقاط الدولة، وللانقلاب على “الرئيس”، وبقية الأمور رتَّبها شدة الصراع والتصدُّع وأطماع الأحلام غير المشروعة، وهي تحتمي بالأحلام المشروعة في شارع واحد.

لقد تحولت “الثورة” إلى حماية لهم، لكنهم -كالعادة دائماً- يسمّون الأمور بالمقلوب، فصار اسمهم “حُماة الثورة”.

كنت حاضراً اجتماعاً في دار الرئاسة عشية تلك الجمعة، وهو أول لقاء رسمي أحضره، وكان نقاشاً عن تعامل المؤسسات الرسمية، مدنية وعسكرية، مع “أحلام التغيير” المشروعة والعادلة والصائبة، ولم يكن حاضراً علي محسن، وحضره عبدربه منصور وعبدالكريم الإرياني، وبقية أركان الدولة والحكومة برئاسة الرئيس علي عبدالله صالح.

ونحن، أنا ونصر طه مصطفى، وبسيارته خارجين من دار الرئاسة، شاهدنا محمد اليدومي يدخل الدار، فقد كان هناك مشروع المبادرة، التي صارت فيما بعد اسمها “المبادرة الخليجية”، كان الرئيس يطرح انتخابات رئاسية خلال تسعين يوماً، لا يترشح هو فيها ويشرف على الـ90 يوماً نائب الرئيس.

ما لم يسبق أن قاله أحد عَلناً أن الرئيس علي عبدالله صالح كان قد فاتح الرئيس عبدربه منصور هادي بأنه سيستقيل ويسلم له الرئاسة لإجراء الانتخابات، فرفض هادي وحلف يمينه بالطلاق ما يستلم دولة، وأنهما سيخرجان معاً، واتفقا على اختيار نائب آخر، اقترح تالياً كلٌ من عبدالقادر هلال وآخرون أن يكون الدكتور علي مجور رئيس الحكومة، خوفاً من رفض اللقاء المشترك تغيير النائب بعد أن كان حميد الأحمر قد أعلن قبولهم أن يتولى عبدربه منصور هادي الرئاسة بديلاً عن صالح. وقبل تغيير النائب، انفجر مسجد الرئاسة وفيه الرئيس ومجور معاً محولاً الأحداث بعيداً عن مسارها، كما فعلت قبل ذلك “جمعة الكرامة” أيضاً.

تمنَّى نصر طه، ونحن معاً في سيارته، أن يصل الرئيس واليدومي إلى اتفاق يقنعان به المشترك للذهاب إلى انتخابات رئاسية، غير أن ظهر الجمعة كنَّا أمام الخبر الأول عن تفجر دماء في تقاطع شارع الدائري مع شارع الرقاص..

خرجت من بيتي لحظتها وذهبت مباشرة إلى الساحة، وتالياً قال الإصلاحيون الذين تحولوا إلى غرائزيين مشبعين بالدم، إني كنتُ في الساحة أدل الطائرة التي كان عليها الرئيس بكله تراقب، بفرح، الدم المُراق..

حالة من الهوس بالسلطة لا تختلف بأي شيء مما يحدث مع الحوثي الآن، أو ربما أن هذا بدافع الخوف من أن تتحول تلك الفرصة إلى عبء يحاصرهم ويمنعهم من أي مخططات في مسارات السلطة والسياسة.

خرجت من بيتي وذهبت للساحة، التي كنت أزورها يومياً، وأحاول النقاش مع توجهها، وكنت أكتب علناً عن مواقفي وعن ما يدور في الساحة، وما يدور في دار الرئاسة، وأنا أقول: ربما أن هذا هو الحل لكي لا يسيطر طرف منهم على الناس، ويصوِّر لهم الواقع عكس ما هو عليه، فالثوار يتعرضون لتعبئة أن اليمن خلاص انتهت فيها سلطة صالح وليس كأنَّ الأمر فوضى في شارع من شوارع مدينة أو اثنتين، لكن هكذا تفعل المشاريع الفوضوية وهي تعبئ الناس بالانتصار وهْمَاً لكي تزيد من حماسها، تماماً كما يتحدث الحوثي اليوم عن بطولاته واليمن والعالم بين يديه.

ووصلتُ إلى خلف الجدار، ورأيت العنف بكل بشاعته مختلطاً بالدم والدموع والقهر والجنون، فخطيب الساحة يومها، وهو فؤاد دحابة، عبأ الحضور أن الجدار الذي بناه مؤتمريون أمام الثورة، كأنه جدار الرئاسة، ودونه الدولة والثورة.. وفي المقابل فإن من بنى الجدار تصرَّف بسطحية وغرور، فهو يدَّعي أنه سيحمي منزله، لأن الثورة كلما تمدّدت منعت المؤتمريين من البقاء في منازلهم ما لم يوالوها..

تلاقت في تلك اللحظة وذلك الزمن أفعال طرفين مغرورين أغبياء وسطحيين ومفعمين بغرور الاعتقاد بالعنف والسطوة بالسلاح أو بالجماهير.. فتساقط شبابٌ عُزّل كل رصيدهم أحلام بالتغيير.

اقترب الثوار من الجدار، وهو جدار هشّ لا يُقدِّر أصحابه أي قيمة للناس، فانهار الجدار ولعلعت الرصاص، وقد رأيتُ كيف أن شباباً تسلقوا الجدران.. كيف لاحقوا المُعدات العسكرية بكل عنفوان، فهم عندهم أنَّ من فعل ذلك هو “صالح” ودم رفاقهم مسكوب على أيديهم، والجزيرة وسهيل وبالميكرفون ترفعان الصوت أن الحرس العائلي يقتلون الثوار.. في تحريض يستفز غريزية كلّ إنسان، فضلاً عن الثوار..

من الساحة اتصلت بالرئيس، أسأل ماذا حدث.. كيف تحول كل شيء إلى مواجهات بالحديد والنار؟ فرد عليَّ بصوت هادئ مدرك للمدى الذي ستذهب إليه الأحداث بالبلاد كُلها.. لم تعد المسألة صراعاً على السلطة، بل صارت تحريضاً للاقتتال المفتوح.. قال لي: سأعقد مؤتمراً صحفياً، ونعلن الحداد، وننكّس الأعلام، ونعلن أن كل من سقط دمه اليوم هم أبناؤنا وشهداؤنا. كان يردد إنها فتنة يجب تطويقها.

لم يكن متفائلاً، ولا كان متشائماً، كان صوته فقط يوحي بالقناعة أنَّ الأمور تخرج عن سيطرة الجميع، وأنَّ الطرف الآخر غير قادر على إدراك ذلك.

وعليه أن يحاول محاولة أخيرة للتوضيح أنه لم يعد هناك إمكانية لأيّ حل من طرف واحد، فما لم يقتنع المشترك أن التنازل الرئاسي هو لتقليل الثمن الذي قد تدفعه البلاد، لن يجدي ذلك شيئاً، فالمشترك يرى أن التنازلات الرئاسية إما حيل رعناء أو خوف ورُعب.. إما يحدث الثوار أن الرئيس الماكر يقتل الناس، ويريد إحداث فتنة بين صفوف الثورة والناس في المنطقة المحيطة بهم، أو أن الرئيس انتهت قوته وهو يجمع حقائبه للهروب.

عشية ذلك اليوم كانت صنعاء قد هدأت موجوعة مفزوعة، ولم يكتمل الأحد إلا وقد تحول كل شيء.

ذات الليلة، وجَّه الرئيس علي عبدالله صالح قيادة الداخلية والأمن المركزي أن تحقق في الحادثة، وأوكل للواء علي محسن الأحمر مهمة التحقيق الأمني والبحث عن حلول لحماية المدنيين من كل الأطراف في محيط الساحة، وذهب وكيل الأمن المركزي بملفات الأحداث عنده إلى مقر الفرقة، ولهذا خرجت قوات الفرقة لتنفذ مهمة الحماية بقرار رسمي.. ثم تحول الأمر بخفّة عقل إلى إعلان بسط اليد على الثورة باسم الحماية، وصدرت تلك البيانات الانقلابية متحدثة عن قيام “الجيش الوطني”، كما وصفه يومها الأستاذ محمد قحطان، والذي قال إن الجيش الوطني سيحمي الثوار حتى يسيطروا على الرئاسة مدنياً.

لم يخطط أحد لذلك الدم، لكن الأداءات السطحية من الأطراف كلها لم ترَ المخاوف، ولا يرهبها لون الدم البريئ على أسفلت الأحلام والادعاءات معاً.

طالت السردية، التي أتمنَّى أن تحظى بنقاش هادئ، لأجل التصالح الوطني، على الأقل، لاعتبار شهداء تلك الجمعة هم شهداء الوطن كُله، فلم يعد ممكناً استغلالهم للإساءة لخصومهم، لقد استشهد الزعيم وهو وهُم عند ربهم الآن، ولا يعني هذا أنني ضد أيّ تحقيق عادل ونزيه فيها، لكن على الأقل الآن فلنجعل ذلك الدم الذي أُريق، أراقته اللحظة المجنونة التي كانت بين طرفين كل منهما استخفَّ بالآخر.. فدفع الناس الثمن.

بقي معي نقطة وحيدة، وهي أن كلَّ أهالي تلك الأحياء الذين كانوا يرفضون الثورة، ويرفضون أن تسيطر على مناطقهم بالقوة، كانوا يطلبون دعماً من الرئاسة أو من الحرس الجمهوري كسلاح لمقاومة الثوار، وسمعت بأذني قيادات الدولة والحرس ترفض ذلك رفضاً قاطعاً.. كانت الردود: تظاهروا، رتّبوا للتظاهر.. تحدثوا، لكن لن نعطيكم سلاحاً..

وكم هو مؤسف أن أكثر من 50 شاباً يمنياً، بعمر الزهور وأحلام التغيير، أُريقت دماؤهم ولم يعد يذكرهم أحد، وقد صار وطنهم كله يشبه تلك الجولة التي كان الثوار يتعاملون معها كأنها أيقونة، ثم بمجرد تحولات السياسة ووراثة السلطة لم يعد يذكرها.

لم يراهن علي عبدالله صالح ولا أيٌ من قيادته المقرّبة منه عائلياً، وأولهم أحمد علي عبدالله صالح، على السلاح لفرض أجندة سياسية، وأتذكر بعد أن شاركت في تشييع جنازة شهداء جمعة الكرامة في الساحة، ذهبت لزيارة أحمد علي، وجلسنا في مقيل مصغر لا يتجاوز عددهم أربعة، كانوا قادة عسكريين محترفين، وربما حتى فيهم مثالية أن الدولة ستصمد كدولة ضد الجميع، ضد النظام وضد الثورة، ستصمد كدولة لا كطرف سياسي.

لقد وصل الحال بأحمد علي عبدالله صالح أن يقول لسفراء الدول العشر: “نعم أنا من عائلة علي عبدالله صالح، لكن لو أن هناك قرارات قانونية ضد أي من قيادات أسرة علي عبدالله صالح، وفقاً للقانون، فأنا أول من سينفذ هذه القرارات”.

 

spot_imgspot_img